مفتي الجمهورية: الحديث عن الرحمة اليوم في غاية الأهمية وسط طغيان النزعة المادية التي تآكلت معها القيم الإنسانية

قال الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، إن الحديث عن الرحمة في هذه الآونة يعد أمرًا في غاية الأهمية، خصوصًا مع طغيان النزعة المادية التي اجتاحت العالم، وأدت إلى تآكل القيم الإنسانية وانحسار معاني الرحمة بين الناس.
جاء ذلك خلال لقائه الرمضاني اليومي مع الإعلامي حمدي رزق في برنامج "اسأل المفتي"، المذاع عبر فضائية "صدى البلد"، حيث تناول فضيلته مفهوم الرحمة في الإسلام، مستشهدًا بالنصوص الشرعية التي أكدت على مركزية هذه القيمة في العقيدة الإسلامية، ومدى ارتباطها بجوهر الإيمان والسلوك الإنساني القويم.
مفتي الجمهورية: الرحمة قيمة محورية أكد عليها القرآن أكثر من مائتي مرة وجعلها الإسلام أساسًا في العلاقات الإنسانية
وأوضح مفتي الجمهورية أن الرحمة من القيم الأساسية التي أكد عليها القرآن الكريم، حيث وردت مشتقاتها أكثر من مائتي مرة، مما يدل على عناية الله عز وجل بهذه الصفة وجعلها محورًا رئيسيًّا في معاملة الإنسان مع غيره. كما أنها من أسماء الله الحسنى، فقد وصف الله تعالى نفسه بأنه "الرحمن الرحيم"، مما يعكس مدى عظمة هذه الصفة وشمولها لكل جوانب الحياة. وأشار فضيلته إلى أن المسلم يستحضر هذه الصفة في كل ركعة من صلاته عند تلاوة سورة الفاتحة، وفي كل عمل يسعى فيه إلى التوفيق والبركة، وذلك انطلاقًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر".
وأردف فضيلة المفتي بأن الرحمة ليست مجرد لفظ أو شعور عابر، بل هي خلق أصيل يمتد ليشمل جميع جوانب الحياة، سواء في التعامل مع الإنسان أو الحيوان أو حتى الجمادات، مشيرًا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نموذجًا للرحمة، إذ وصفه الله تعالى بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. وأكد فضيلته أن هذه الآيات تبرز الدور المحوري للرحمة في تحقيق النجاح في الدعوة الإسلامية ونشر رسالة المحبة والسلام بين الناس.
وأضاف فضيلة المفتي أن الرحمة لم تكن حكرًا على علاقة المسلم بأخيه المسلم، بل امتدت لتشمل جميع المخلوقات، مؤكدًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أصحابه بالرحمة حتى في أشد الظروف، فقد أوصاهم عند خروجهم للجهاد بعدم التعرض للنساء أو الأطفال أو الشيوخ أو الرهبان، وعدم قطع الأشجار أو إهلاك الموارد، وهو ما يعكس رؤية الإسلام الحضارية التي تحفظ للإنسان كرامته وتصون حقوقه. كما أشار فضيلته إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، مؤكدًا أن الرحمة هي السبيل للحصول على رحمة الله في الدنيا والآخرة.
مفتي الجمهورية: المسلم يستحضر الرحمة في كل ركعة من صلاته.. وهي ليست مجرد لفظ بل خلق أصيل يمتد إلى التعامل مع البشر والمخلوقات كافة
وشدد فضيلة المفتي على أن افتقاد البشرية اليوم لهذه القيمة تسبب في انتشار الحروب والمآسي ووقوع الظلم على الضعفاء والمحتاجين، مما يستوجب التوقف أمام هذا المعنى الجليل واستعادته في العلاقات الإنسانية. واستشهد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى الأقرع بن حابس يستغرب من تقبيله للحسن والحسين، فقال له النبي: "أَوَأَمْلِكُ أنْ نَزَعَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ؟ مَن لا يَرحَم لا يُرحَم". ولفت فضيلته النظر إلى أن هذه الرسالة موجهة إلى أصحاب القلوب الحية والضمائر اليقظة، إذ إن القسوة تتنافى مع طبيعة الإنسان السوية، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من عواقبها بقوله: "لا تُنزع الرحمة إلا من شقي".
وفي سياق حديثه، أوضح فضيلة المفتي أن أسباب غياب الرحمة في العصر الحديث تعود إلى عدة عوامل، منها الانشغال بالمصالح المادية، وغياب التربية السليمة، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وتزايد التنافس على الأمور الدنيوية دون الالتفات إلى القيم الأخلاقية. كما أكد أن من بين الأمور التي تعيد الرحمة إلى القلوب ملازمةَ الطاعات والعبادات، إذ إنها بمنزلة شحنات إيمانية تعين الإنسان على ترقيق قلبه، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من يجد في نفسه قسوة أن يمسح على رأس اليتيم، لما في ذلك من تربية للرحمة والحنو في النفوس.