السياسي- سوشيال ميديا 5: عندما تحكم السلطة بالضحك بدل الخوف
السلطة لم تعد تخيف، بل تُضحك! وهذا أخطر أنواع السيطرة على الإطلاق.. ما هي الكوميديا الزرقاء وعلاقتها بالكوميديا السوداء؟ كيف باتت المؤسسات تصدر بياناتها وكأنها منشورات إنستجرام؟.. هل السياسي الجديد يحكمك عبر الدستور أم عبر الدوبامين؟.. كيف انقلبت الدولة إلى براند، وأصبحت تُعامل أو تُدار بطريقة الشركات وكأنها علامة تجارية، فمن يراقب من؟ ومن يحاسب من؟ وكيف تحولنا من مواطنين يشاركون في صنع القرار إلى مجرد متابعين يستهلكون المحتوى السياسي؟ ماذا يحدث؟
الكوميديا الزرقاء مقابل السوداء
في عصر المنصات الرقمية، اكتشفت السلطة أن الضحك أقوى من الخوف، وأن الإلهاء أفضل من الإخضاع، إنها الكوميديا الزرقاء أي تحول المواجهة مع السلطة إلى الفضاء الرقمي، في مقابل مصطلح الكوميديا السوداء، التي استخدمتها الشعوب تاريخيًا كسلاح ثقافي لنقد السلطة في ظل الأنظمة القمعية.
إذن السياسي الجديد يحكمك عبر الدوبامين، تلك المادة الكيميائية المسؤولة عن المتعة والإثارة، وهو يستخدم نفس أساليب تطبيقات التواصل الاجتماعي من خلال جرعات متناوبة من الغضب والتسلية، تسريبات مثيرة، وأخبار صادمة تبقينا في حالة استنفار دائمة.
نهاية المواطن.. بداية المتابع
تبدلت هويتنا السياسية بشكل جذري، فالمواطن صاحب الحقوق والواجبات المشارك في صنع القرار، بدأ بالتلاشي ليظهر بدلًا منه المتابع، الذي لا يذهب لمراكز الانتخاب ليدلي بصوته بل يكتفي بتعليق في السوشيال ميديا، ولا يشارك بل يراقب، ولا يحتج في الشوارع بل ينزل ستوري على إنستجرام.
هذا ليس مجرد تغيير في الأدوات، بل في جوهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فالمواطن كان يملك خريطة واضحة للمشاركة السياسية، أما المتابع فيتخبط في فضاء رقمي مليء بالضجيج، عاجزًا عن التمييز بين الحقيقي والمزيف.
السياسة كعرض ترفيهي
لم تعد السياسة ممارسة جادة لإدارة شؤون المجتمع، بل تحولت إلى عرض ترفيهي متواصل، فالخطابات لم تعد تهدف للإقناع بل للإبهار، والنقاشات لا تدور حول الحلول، بل حول اللحظات المثيرة القابلة للانتشار، وحتى القضايا المعقدة من الفقر إلى البطالة أصبحت تُختزل في هاشتاجات عابرة.. والكوارث تتحول إلى محتوى سريع الاستهلاك، يشتعل لساعات ثم يختفي مع أول ترند جديد، إنه عصر السياسي الجديد الذي لا يسعى لكسبك كمواطن واعٍ، بل كمتابع متحمس، فلا يهمه إقناعك، بل إثارة انتباهك، فقد اكتشف أن الوصول إلى قلبك أسهل من الوصول إلى عقلك، وأن تسليتك أسهل من تمكينك.
من يراقب من؟
المفارقة الكبرى: نظن أننا نراقب السلطة عبر متابعتنا لها، بينما هي من تراقب سلوكنا الرقمي وتحلل تفاعلاتنا.. نعتقد أننا نحاسب المسؤولين بتعليقاتنا، بينما هم يستثمرون غضبنا ذاته لمزيد من المشاهدات، وفي خضم هذا التحول، تبرز حقيقة صادمة: كلما زاد شعورنا بالمشاركة عبر العالم الرقمي، ابتعدنا عن التأثير الحقيقي في العالم الواقعي.
السلطة الضاحكة أخطر من السلطة المخيفة
لعل أخطر ما في هذا التحول أن السلطة الجديدة تسعى لإضحاكنا بدل إخافتنا، اكتشفت أن شعوبًا مستغرقة في الترفيه أقل قدرة على المقاومة من شعوب مقموعة بالخوف، لذلك السلطة الضاحكة تخاطب غرائزنا لا وعينا، تستثمر أوقات فراغنا لا ساعات عملنا، تسللت إلى غرف نومنا وأصبحت جزءًا من حياتنا اليومية.
وهنا تكمن المفارقة المرعبة: السلطة سرقت منا منصات التواصل الاجتماعي التي كنا ننتقدها فيها، واقتحمت حديقتنا الخلفية التي كنا نلهو فيها بحرية، لتحكمنا مجددًا باستراتيجية تناسب العصر الرقمي، إنها الكوميديا الزرقاء! لتمحي من ذاكرتنا كوميديا الشعب-السوداء.


