الأقصر تتحدث بأسرارها.. مدينة خفية تعود لألفي عام تظهر في قلب الكرنك
كأن الزمن قرر أن يزيح الستار عن واحدة من أعمق أسرار الحضارة المصرية، ففي صمت الجنوب وهدوء معابد الكرنك المهيبة، تحدثت الأرض من جديد، لتبوح بما أخفته الرمال لأكثر من ألفي عام. كشف أثري غير مسبوق أعاد رسم خريطة معابد الكرنك، وألقى الضوء على مدينة عمالية متكاملة تعود لعصر الدولة الوسطى، في واحدة من أقدم صور الاستيطان والعمل داخل هذا المجمع الديني الأعظم.
مدينة منسية.. تعود للحياة من الركن الجنوبي الشرقي
في أقصى الركن الجنوبي الشرقي لمجمع الكرنك، حيث تعمل البعثة المصرية الفرنسية المشتركة التابعة للمركز المصري الفرنسي لدراسة معابد الكرنك (CFEETK)، كشفت أعمال الحفر والتنقيب عن مستوطنة عمالية متكاملة يعود تاريخها إلى الفترة ما بين عامي 2050 و1710 قبل الميلاد، أي إلى قلب الدولة الوسطى. ولم تكن هذه المدينة مجرد مكان مؤقت، بل استمرت الحياة فيها حتى نهاية الدولة الحديثة، ما يؤكد أنها كانت مركزًا مهمًا لخدمة المعابد لمدة تقارب الألف عام.
وتقع هذه المدينة الأثرية بين سورين تاريخيين: أحدهما من الطوب اللبن شيده الملك تحتمس الثالث، والآخر سور ضخم يعود لعهد الملك نختنبو الأول من الأسرة الثلاثين، مما يشير إلى تطور عمراني مستمر عبر قرون متتالية داخل محيط الكرنك.

فرضيات جديدة حول اتساع الكرنك
المثير أن المدينة المكتشفة تبعد نحو 300 متر عن فناء الدولة الوسطى، ما يفتح الباب أمام فرضيات جديدة حول مدى اتساع نطاق معابد الكرنك في تلك الفترة الغابرة، وقد يدفع ذلك الباحثين لإعادة النظر في الحدود التقليدية التي كانت تُرسم للمعبد، بل وربما يغير فهمنا التاريخي لوظيفة هذه المساحة القديمة.
“المقاصير الجنوبية”.. موقع أثري جديد للزيارة
تزامن الكشف الكبير مع مشروع ترميم وتأهيل المقاصير الجنوبية بمعبد الأخ منو، والتي تم افتتاحها رسميًا للزيارة بعد الانتهاء من أعمال ترميم دقيقة شملت النقوش والحوائط والأسقف. ويُعد هذا المشروع ثمرة تعاون طويل الأمد بين مصر وفرنسا للحفاظ على التراث المصري، ويأتي ضمن خطة وزارة السياحة والآثار لفتح مزارات جديدة أمام الزوار.

وتُظهر النقوش المكتشفة في المقاصير مشاهد نادرة من طقوس ملكية ومناسبات دينية، منها احتفال “حب سد” لتحتمس الثالث، بالإضافة إلى نقش تأسيسي يصف المعبد بأنه “لملايين السنين”، مكرّس لعبادة الإله آمون رع.
حفائر العساسيف ونجع أبو عصبة.. المزيد من الكنوز
لم تتوقف أسرار الأقصر عند الكرنك فحسب، بل امتدت إلى مناطق أخرى مثل العساسيف ونجع أبو عصبة، حيث نجحت بعثات مصرية في الكشف عن:توابيت خشبية صغيرة مخصصة للأطفال في العساسيف، تعود لعصور غير محددة، وتحتاج إلى دراسة علمية دقيقة لتحديد الفترة التاريخية بدقة، مجموعة من الأوستراكات (رقاقات من الحجر والفخار) وخاتمين يحملان اسم “خونسو”، مع تماثيل أوشابتي من الفيانس، وغرفة غامضة لم تُعرف وظيفتها بعد.

أما في نجع أبو عصبة، فقد كشفت الحفائر عن سور ضخم من الطوب اللبن يعود لعهد الملك من خبر رع من الأسرة 21، إلى جانب بوابة حجرية وورش لصناعة الجعة والتماثيل البرونزية، ما يُرجح أن الموقع كان منطقة صناعية نشطة في العصور المتأخرة.
الأقصر.. لا تزال تهمس لنا
المدينة التي كانت ذات يوم عاصمة للروح والعبادة والسياسة، لا تزال تهمس إلينا من خلال أحجارها القديمة وشوارعها المدفونة، بأن كل حبة رمل فيها تخبئ قصة. ومع كل كشف جديد، تزداد الأقصر بهاءً، وتقترب أكثر من استعادة موقعها المستحق على خريطة السياحة العالمية والتراث الإنساني.


