قائد الهروب من نفق الحرية.. الأسير الفلسطيني المُحرر محمود العارضة يروي رحلة نضاله أمام الاحتلال وسنوات اعتقاله | حوار
سُلِبَ الحرية هو أول طريق للنيل من الإنسانية، وأطفال الحجارة كما يُلقبون خرجوا للحياة ليجدوا حولهم عالما مخيفا يسيطر عليه الدمار والتقييد وسلب الأرض والحقوق والحريات، وعرفوا الخوف مبكرًا بكثرة المداهمات الليلية والممارسات الوحشية.
الأسير الفلسطيني المُحرر محمود العارضة يروي رحلة نضاله أمام الاحتلال
محمود العارضة الأسير الفلسطيني المُحرر، هو القائد والعقل المُدبر لعملية نفق الحرية والهروب من سجن جلبوع الإسرائيلي، وأُطلِق عليه مهندس عملية الهروب، وبدايته النضالية حسبما رواها كانت منذ الصغر، إذ كان واحدًا من أطفال فلسطين الذين اعتقلوا في الصغر، فتشكل وعيه السياسي مبكرًا.
وبنفسٍ عميقٍ خرج من قلبه المتألم المهموم، بدأ محمود العارضة الحديث عن سنوات ثقيلة قضاها خلف القضبان وصلت لـ 32 عامًا، ثقلت بأوجاع التعذيب والعزلة والفقد، إلى أن كتب له الخروج في الصفقة الثانية بعد طوفان الأقصى، ليتنفس هواء الحرية التي ظل طوال فترة سجنه محاولا الحصول عليها.

س/ عرفنا بنفسك في البداية؟.. وكيف بدأت الحركة النضالية في حياتك؟
أنا محمود عبد الله العارضة، من مواليد مدينة جنين بالضفة الغربية عام 1975، خرجت من بلد كانت معقل المقاومة ضد الاحتلال، فكنا نلعب برمي الحجارة في وجوه الإسرائيليين أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
تم اعتقالي للمرة الأولى وأنا في عمر 12 عامًا، والمرة الثانية كانت في عام 1992 وتم الحكم عليَّ بالسجن 4 سنوات، وذلك بسبب مشاركتي في عمليات مقاومة واستهداف لدوريات الجيش الإسرائيلي، وأمضيت دراستي داخل السجن، وخرجت في يناير عام 1996 ضمن صفقة تحرير، وشكلت تجربة الاعتقال هذه نقطة تحول بالنسبة لي، إذ شعرت أنهم سرقوا طفولتي.
وأما الاعتقال الثالث فكان الأصعب، وجاء بعد خروجي من الاعتقال الثاني بشهور وبالتحديد في سبتمبر 1996، إذ حكم عليَّ بالسجن المؤبد بتهمة الانتماء للجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، والمشاركة في عمليات قتل جنود إسرائيليين.
س/ ما العملية الأبرز التي تسببت في اعتقالك والحكم عليك بالسجن المؤبد؟
العمليات الأبرز كانت قتل جنود إسرائيليين، وكانت العملية الأخيرة هي قتل ضابط وزوجته مسلحين كانا رفقة صغيرهما بالسيارة، وكانت صعوبة العملية في التمكن من استهدافه دون إيذاء الصغير، وبالفعل تمكنت من فعلها.
س/ كيف واجهت وحشية السجن في سنك الصغيرة واستطعت استكمال دراستك؟
بالفعل حصلت على الثانوية وأنا في السجن، وكانت صعوبة تقبلي للأمر يتم السيطرة عليها بالتعلم والقراءة والدعاء وقراءة القرآن، فضلا عن الإيمان بعقيدتي في المقاومة من أجل تحرير وطني، واستكملت دراستي الجامعية بالسجن وحصلت على البكالوريوس في التربية الإسلامية، وأكملت مسيرة العلم حتى بدأت في كتابة مؤلفات بعضها احتفظت به وبعضها تم مصادرتها ولم تخرج للنور.
س/ تعرضت لسلسلة من المضايقات والعزل الانفرادي خلال سنوات حبسك.. احكِ لنا تفاصيل هذه الانتهاكات؟
الحقيقة أن العزل الانفرادي من أقسى العقوبات داخل السجن، هو موت بالبطيء وتشريد للفكر والعقل والإنسانية، إذ لا نعرف النور من الظلام ولا نسمع سوى صوت أنفاسنا، والمرة الأولى أمضيت 4 أشهر من العزل، ثم جددت المدة لـ 60 يومًا، وبعدها عندما حاولت الهروب من سجن شطة واكتشاف الأمر، تم الحكم علي بالعزل لمدة سنة.
س/ احكِ لنا عن تجاربك المتعددة مع الهروب من سجون إسرائيل؟
الهروب فكرة تراود كل أسير، لكن أن تدخل الفكرة حيز التنفيذ فهذا يحتاج إلى جهد كبير، وبالنسبة لي كانت محاولاتي متكررة من عدة سجون لإيماني أن حريتي مسلوبة ظلما وقهرا.
المحاولة الأولى للهروب كانت في عام 2013 من سجن شطة، وبعد جهد استمر 16 شهرًا اكتشف السجانون الأمر بسبب خطأ غير مقصود من أحد المشاركين معنا في الحفر، إذ سكب أحدهم كمية كبيرة من الرمل في فتحة المرحاض ما تسبب في انسداده واكتشاف الخطة، وبعدها تمت معاقبتنا بإضافة 5 سنوات للحبس، وتم نقلنا إلى سجن جلبوع الأكثر تحصينًا.
س/ مفارقة عجيبة أن يتم نقلك من سجن شطة كعقاب على محاولة الهروب، وتوضع في سجن أكثر تحصينًا إلا أنك تكرر التجربة وتنجح.. أروِ لنا كيف حدث هذا؟
الحقيقة أن تجربة الهروب من سجن جلبوع بدأت منذ اليوم الأول لدخولي فيه، وعندما تم وضعي في الحبس الانفرادي، بدأت أرصد وضع السجن ونقاط ضعفه وبدأت في تشكيل الخطة بحذافيرها، وكنت خلال هذه الفترة أحاول استكشاف المنطقة الأفضل للتنفيذ حتى وجدت بلاطة في أرض الحمام ضعيفة يمكن أن نستغلها، فبدأت على الفور في تكوين الفريق، وكان منهم مشاركين في تجربة الهروب من سجن شطة.
س/ كيف تمكنت من تنفيذ حفر النفق رغم تشديد الحراسة عليك لوجود سابقة هروب؟
الأمر تم بعون الله لنا، كنا نعمل وتوكلنا عليه، استخدمنا ملعقة طعام لتنفيذ الحفر، واختيار الفريق هذه المرة كان أكثر دقة، وهنا يجب أن أذكر أننا كنا 11 شخصًا، 5 منا كانوا أبطالا ساعدونا فقط لأجل حريتنا، دون أن يقرروا الخروج معنا، إذ كان متبقيًا لهم أشهرًا أو سنوات بسيطة للخروج.
في سجن جلبوع كانوا يصنفونني بـ أخطر أسير، وذلك فيما يخص فكرة الهرب، لوجود عدة تجارب سابقة، وكان يوجد تركيز عليَّ، ومع ذلك تم التنفيذ.
س/ احكِ لنا عن أصعب مرحلة مرت بها العملية من الحفر وحتى التنفيذ؟
أصعب لحظة عندما علق رفيقان داخل النفق قبل لحظات من خروجهما، كادا أن يودعوا الحياة بأكملها لولا أن ستر الله نجاهم، واللحظة الثانية كانت قبل ذلك وهي وقوع تفتيش مفاجئ داخل الزنزانة خلال عملية الحفر، وكنت أنا ورفيق آخر داخل النفق، فخرجت وأغلقت عليه، ولم ينتبه السجان لتغيب شخص ومرت بسلام.
س/ بعد الخروج من النفق.. صف لنا شعورك وقتها؟
تنفست الحرية لأول مرة منذ سنوات طويلة، كان شعورا رائعا لا يوصف، ولكن سرعان ما عدنا للسجن مرة أخرى بعد ملاحقتنا بالطائرات والسيارات وأجهزة التتبع الحديثة، وهو ما كنا نتوقعه قبلها لكن لم يحبطنا من اتخاذ القرار بخوض التجربة للحصول على الحرية ولو لساعة.
س/ هل سمعت عند عودتك للسجن بالصدى الذي حققته عملية نفق الحرية أو ما أطلق عليها «عملية الملعقة»؟
لم أتوقع هذا الصدى لعملية نفق الحرية وكنا نسمع من بعض الإذاعات الصهيونية داخل السجن ما حققته من أثر بكسر نفوس الاحتلال وإظهار ضعف منظومتهم الأمنية، كما أحرجهم أمام العالم باعتبارهم يملكون السجن الأكثر تحصينًا لديهم، وتفاجأت بتفاعل الناس مع الأمر.
س/ كيف تم التعامل معكم عقب عودتكم للسجن بعد تجربة الهروب؟
بعدها تم عزل كل منَّا في زنزانة منفردة، تم حرماننا من الزيارات وشددوا الإجراءات، وتم حرماني من الأكل بالمعالق حتى خرجت.
س/ كيف ترى عملية طوفان الأقصى وما جرى بعدها؟
طوفان الأقصى نقطة تحول في تاريخ القضية الفلسطينية، وأعتبرها آخر العلامات الصغرى لنهاية الاحتلال وبعدها ستبدأ العلامات الكبرى.
س/ كيف تم التعامل معكم داخل السجن بعد طوفان الأقصى؟
إسرائيل أعلنت الحرب على الأسرى كما أعلنت الحرب على المنطقة، الهجوم كان قاسيًا جدًا، والتعذيب لا يمكن وصفه، فقد كشفوا عن وجههم الحقيقي أمام العالم أجمع وما يحملونه من بشاعة، وأكدوا يومًا بعد يوم أن ما نفعله بهم حق وهو أقل ما يستحقونه.
بن غفير كان يشرف في هذا الوقت بنفسه على عمليات التعذيب داخل السجون، وتعمدوا التخلص من أكبر عدد من الأسرى، وبالفعل عانينا حربا داخل السجون وكنا لا نستطيع إيصال صوتنا للعالم الخارجي.
س/ كيف استقبلت خبر خروجك ضمن الصفقة الثانية بعد طوفان الأقصى، وكيف تم التعامل معكم في الأيام الأخيرة؟
لم أصدق أنني أصبحت حرا إلا بعد وصولي لمصر ووقوفي على أرضها.
أما الأيام الأخيرة قبل الخروج، فقد شهدت زيادةً مبالغا فيها للعنف، خاصة مع مَن تم الإعلان عن خروجهم بالصفقة، وكانت هناك عدة محاولات اغتيال، ورأيت أمام عيني تعدٍ مبرح على الأسير محمد داوود كان الهدف منه هو التخلص منه تماما.
س/ هل ننتظر مؤلفات جديدة لك خلال الفترة المقبلة؟
أول ما سيصدر لي هو كتاب انتهيت بالفعل منه وهو قرابة 1000 صفحة، أسرد فيه تجربة نفق الحرية وعملية الهروب من سجن جلبوع، ولهذا لم أدخل في تفاصيل دقيقة للعملية خلال الحوار.
س/ ما شعورك بعد خروجك ورؤية أسرتك على أرض مصر؟
رأيت شقيقتي فالحمد لله استطعت اللقاء بها داخل مصر، ولأول مرة كنت أرى أطفالها واحتضنهم، فعلى مدار 32 عامًا لم أرَ صغارا وكانت هذه من أكثر الأمور الطيبة التي حدثت لي بعد الحرية، وما ينقصني الآن أن يجمعني الله بوالدتي.
س/ حدثنا عن استقبال أهل مصر لك؟
استقبال شعب مصر لم نتوقعه، بداية من الجنود الذين استقبلونا بالأحضان والترحاب، مرورا بحسن الإقامة والضيافة، وحتى الشعب الودود الذي رأينا منه احتضانا طيبا، الحقيقة لا أسمي إبعادي إلى مصر عقابا، فمصر وطني الثاني وكان لها أثر في تربيتنا سياسيًا والتأثير فينا، وأتمنى أن يأتي يوم وتقود الأمة من جديد.


