الجمعة 12 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

رائد دراسات البحر الأحمر.. روشتة الماضي لمواجهة المستقبل

الخميس 11/ديسمبر/2025 - 07:55 م

حين أتابع نشرات الأخبار من موقعي كمتخصص في التاريخ المصري القديم؛ أبتسم ابتسامة تتراوح بين الاندهاش والتأمل، فما من حادث يجري في مصر والإقليم في هذه الأيام الدقيقة إلا وله مثيل ومرد في تاريخنا القديم.

فقد قيل إن الفيلسوف جورج سانتيانا قال: "مَن لم يقرأ التاريخ حُكم عليه أن يعيشه مرة أخرى"، ونُسب لـ كارل ماركس قوله: "التاريخ يكرر نفسه مرتين، واحدة كمأساة والأخرى كملهاة". وقد تطرق ابن خلدون في مقدمته الشهيرة لدورات التاريخ وما يمكن تسميته بقوانين صعود وانهيار الأمم.

ولعلّ أي متخصص في أي حقبة تاريخية قد يلمح هذا التكرار الذي يفرضه السلوك البشري على مجريات تاريخ الإنسانية، بل لعل الإنسان المخلص والمتخصص في علم واحد، يرى من زاوية هذا العلم أشياء كثيرة أبعد من هذا العلم المجرد. فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم.

ولعلني أطلت المقدمة واستطردت لأؤكد لقارئي المعنى الذي أتوخاه وأحرص عليه، وهو أنني من واقع التاريخ أقرأ الحاضر والمستقبل، والعلم كله بيد المولى عز وجل.

وبمتابعة الأخبار الكثيرة التي تخص البحر الأحمر وشواطئه ومدنه الاستراتيجية وتداعيات النزاعات المسلحة الأخيرة في الإقليم على مصيره، من اليمن إلى السودان إلى القرن الإفريقي، تتأكد الصورة.

وهنا تجدر الإشارة لرائد دراسات البحر الأحمر، العالم المصري الجليل الدكتور عبد المنعم عبد الحليم الذي كان مبعوثًا مصريًا في بعثة تعليمية في مقديشيو عاصمة الصومال في الستينيات، وكتب كتابا قيما عن تجربته هناك وعن جغرافيا وتاريخ الصومال وعلاقتها بتاريخ مصر وقرارها الاستراتيجي.

ومقدمة الكتاب، وهو من سلسلة الألف كتاب التي ذاع صيتها وتعاظم أثرها قبل عقود، كانت للدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية الأسبق، وقد كان الزيات عليه رحمة الله حينها مندوب مصر في المجلس الاستشاري للصومال والموضوع تحت وصاية الأمم المتحدة، وقد لعب الزيات دورا كبيرا في استقلال الصومال الذي حصل بالفعل في أول يوليو في العام الأول من الستينيات.

وعلى أثر هذه التجربة أعد الدكتور عبد المنعم عبد الحليم رسالتي ماجستير ودكتوراه في جامعة الإسكندرية، عن البحر الأحمر، انطلاقا من خبرته بالصومال.

ثم تنقل في الوظائف بين اليمن ومدينة جدة السعودية، وكأن قدره ربطه بالبحر الأحمر طوال عمره العملي والأكاديمي.

وأقمت فعالية خاصة للدكتور عبد المنعم رحمة الله عليه في مكتبة الإسكندرية خلال شغلي منصب مدير مركز الخطوط والنقوش بالمكتبة، بوصفه رائد دراسات البحر الأحمر، وقد تداعى تلامذته من كل حدب وصوب، فقد كان واسع العطاء، وكان بيته مركزا إشعاعيا للمعرفة يحضر إليه التلاميذ يسألونه ويناقشونه ويستعيرون الكتب من مكتبته الخاصة العملاقة التي تبرعت بها أسرته لمكتبة الإسكندرية، وتخطت ألف وخمسمائة كتاب فيما يحصى.

والدكتور عبد المنعم هو أول من أجرى حفائر في سبعينيات القرن الماضي على سواحل البحر الأحمر واكتشف ميناء يخص تاريخ مصر القديمة ونشر هذا في الدوريات العالمية، وحاز بمثل هذه الاكتشافات شهرة واسعة أطبقت الآفاق.

وبينما أراجع كتاباته ونشاطاته التي كرس حياته لأجلها، ارتباطا بالبحر الأحمر، أجد هذا الرجل، ووضع لصانع القرار المصري في كل العصور، ما جرى مع أسلافه من صناع القرار في عصور غابرة تعود لمئات وآلاف السنين. وكأنه ترك وصية وإرثا علميا يمكن للدولة المصرية أن تستفيد منه.

ونحن نعاين هذه الأيام اضطرابات اليمن وما تلقي بظلالها من خلاله على مضيق باب المندب، ونتابع الجاري في السودان وتأثيره على البحر الأحمر قبالة السواحل السودانية، فضلا عما يجري بأريتريا والصومال، وأثيوبيا، وتأثيرات كل هذا على الشريان الملاحي شديد الخطورة للإقليم والعالم.

وإذا اقتحم عوالم السياسة، مع احترامي لمتخصصيها ومسؤوليها، فهم على قدر المسؤولية العلمية والسياسية والتاريخية فيما أنيط بهم من مهام ووظائف، فإنني أرتكز لسابق خبرتي في العمل الدبلوماسي.

وقد عاينت في الأروقة الدولية كيف يمكن الاستفادة من الحقل العلمي الأكاديمي وكتاباته في فهم ورسم السياسات، وفي استلهام الحلول، لكني ومن مسؤولية تخصصي أود لفت الانتباه لهذا الرجل الراحل الجدير بكل الاحترام والتقدير، والذي يستأهل في قبره احتراما جديدا حين نعاود زيارة نتاجه العلمي وتأصيله لتاريخ هذا الشريان وما نشأ على ضفافه من شقاقات تاريخية ومعارك بين أمم بازغة وإمبراطوريات مندثرة وقوى صاعدة وأخرى آفلة. ولا أزيد على هذا، فلكل فعل يحدث اليوم شبيه له بالأمس.
وأحث من موضعي تشجيع الشباب المصري السفر لقارة إفريقيا والانتشار في دولها والبحث عن الرزق هناك في أسواق وسيعة ينتشر فيها أبناء جنسيات أخرى، تستخرج خيرات هذه البلدان بمهارة وحذق.
فالمصري هو عين بلاده بالعلم والدراسة والمعرفة المباشرة للأجناس والشعوب، وبجهده الاقتصادي ونشاطه التجاري في قارتنا الوثيقة الصلة بنا.

الدكتور عصام السعيد أستاذ الآثار بجامعتي الإسكندرية والسلطان قابوس، ودبلوماسي سابق.

تابع مواقعنا