الأربعاء 17 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

حين تنزل أم كلثوم من المنصة.. قراءة في فيلم الست

الثلاثاء 16/ديسمبر/2025 - 05:28 م

عندما سُئل يحيى حقي عن الفن، كان رأيه أن دوره لا يقتصر على الشرح، بل على أن يجعلنا نرى الحياة بوضوحٍ مختلف، لا أن يرفع صوته، بل أن يفتح نافذة، ومن هذه الزاوية تحديدًا يمكن أن نقترب من فيلم «الست»، لا كعمل يسعى إلى تلخيص سيرة أم كلثوم، ولا كتمثال سينمائي جديد يُضاف إلى معبد الأساطير، بل كمحاولة صادقة للإنصات إلى الإنسانة التي سبقت اللقب، وإلى المرأة التي عاشت قبل أن تصبح صوتًا للأمة، فيلم يضع الكاميرا في مستوى القلب، لا في مستوى المنصة، ويختار أن يرى أم كلثوم أولًا كستّ من لحم ودم، ثم بعد ذلك كفنانة.

حين تنزل أم كلثوم من المنصة في الفيلم لتحكي لنا عنها، لا تهبط بمشهد درامي مصطنع، بل تنزل كما لو كانت تفتح لنا بابًا إلى عالمها الداخلي، إلى تلك اللحظات التي لم تُحكى من قبل، نراها تتردد، تتأمل، تمسح دموعًا تكاد لا تُرى، وتخطو خطواتها الأولى نحو الصوت الذي سيصبح لاحقًا إرثًا للأمة، هذه الزاوية الإنسانية تعيد صياغة علاقتنا بالصوت والأسطورة، تجعلنا نفهم أن التاريخ لا يُبنى على اللحظات الكبرى فقط، بل على ثنايا الصمت والشك والتردد.

يبدأ الفيلم من حيث لا تبدأ الحكايات عادة، أم كلثوم على مسرح أوليمبيا في حفلتها الثانية بباريس، واقفة بكامل هيبتها قبل أن يخرج الصوت، وقبل أن تستقر الآهات، اختيار هذه اللحظة كبداية ليس اختيارًا زمنيًا بقدر ما هو اختيار دلالي، نحن لا نبدأ من الصعود، بل من الذروة ذاتها، ثم نعود إلى الوراء، كأن الفيلم يقول منذ لقطته الأولى: هذه ليست حكاية كيف وصلت هنا، بل حكاية ماذا دفعت كي تقف هكذا، ثابتة، مكتملة، بلا ارتجاف.

من هذه الوقفة، يعود الزمن متكسّرًا، متداخلًا، كما تعود الذاكرة لا كما يُكتب التاريخ، اللعب بين الأزمنة كثيف، نعم، لكنه ضروري، لا يمكن تخيّل الفيلم بترتيب خطّي، لأن حياة أم كلثوم نفسها لم تُعش على هذا النحو، كل مرحلة عمرية تبدو كقصة قصيرة مستقلة، الأربعينات، الخمسينات، وما بعدها، لكل زمن إيقاعه وشخصياته وتوتراته، بينما تظل البطلة ثابتة في مركز الدائرة، تتغيّر دون أن تنكسر.

الطفولة لا تُقدَّم هنا بوصفها مفتاحًا تفسيريًا مباشرًا، بل كأثر بعيد، ما نراه من حدّة وقسوة في الشخصية لا يأتي كصفة جاهزة، بل كنتيجة لمسار طويل من المقاومة، الفيلم لا يطلب التعاطف، ولا يبرر، لكنه يجعل الفهم ممكنًا، كأننا نرى الطبقات تتراكم: صوت، ثم مسؤولية، ثم عزلة.

«بنيت سور حوالين نفسي.. عشان محدش يوصل للست اللي جوايا» جملة لا تُقال على لسانها داخل الفيلم كحكمة، ولا كاعتراف متأخر، بل كحقيقة هادئة. السور هنا ليس تعاليًا، بل ضرورة ليس قسوة، بل حماية.

غير أن ما يُبنى للحماية، كثيرًا ما يتحول، في العتمة، إلى مساحة ضيقة للاختناق، فجأة نفهم أن القوة التي رأيناها طوال الوقت لم تكن قناعًا، بل درعًا، وأن الأسطورة لم تُبنَ فوق الإنسانة، بل حولها.

رأينا في الفيلم كيف انكسرت أم كلثوم كـ«ست» تنزل إلى بدروم فيلتها، تنسحب من الضوء، الصوت الذي كان يملأ المسارح يصير عبئًا ثقيلًا على صدر امرأة وحيدة، الفيلم يمتلك شجاعة نادرة في هذه اللحظات؛ لا يشرح، لا يواسي، لا يقفز، يتركنا في الصمت معها.

ومن هذا الانكسار يولد الفعل، تتحول الهزيمة إلى طاقة، تبرعات، تنظيم، اجتماعات، جولات، حفلات، الغناء وحده لم يعد كافيًا، الفن يتحول إلى التزام، أم كلثوم لا تكتفي بأن تغني للوطن، بل تضع ما تملك فعليًا في خدمته، تشترط العملة الصعبة، لا طمعًا، بل وعيًا باللحظة التاريخية.

أحمد مراد لم يقترب من «الست» بوصفه مشروعًا سينمائيًا، بل بوصفه حالة إنصات طويلة، ثلاث سنوات قضاها مع هذا العمل، لا ليجمع معلومات، بل ليصغي: للصوت حين يصمت، وللروح حين تتعب، وللمسافة الدقيقة بين الإنسانة والأسطورة، لم يكن يكتب نصًا، بل يبحث عن الإيقاع الداخلي للكلمات، عن الموسيقى الخفية بين الجمل، كان يمكنه أن ينتج أكثر من عمل في الفترة نفسها، لكنه اختار الطريق الأصعب؛ طريق البطء، الذي لا يمنح نتائج سريعة، لكنه يمنح معنى أعمق.

في «الست»، تتحول كتابة أحمد مراد إلى بنية زمنية، لا إلى حكاية تُروى من البداية للنهاية، اللعب بين الفترات المختلفة في حياة أم كلثوم ليس ترتيبًا زمنيًا بقدر ما هو كشف تدريجي للروح، كل زمن يُكتب كقصة قصيرة مكتفية بذاتها، لها توترها وشخصياتها وأسئلتها، بينما تبقى أم كلثوم في المركز، تتغير وتتحول، دون أن تفقد نواتها الصلبة، كمتفرج، لا نتابع سيرة، بل نعيش حالة.

الكتابة في الفيلم تتعامل مع أم كلثوم ككائن حي، لا كرمز، الأسئلة لا تُطرح مباشرة، لكنها تظل معلقة في الهواء: ماذا يعني أن تمتلك صوتًا يعرفه الجميع؟ وماذا يعني أن تصبح رمزًا وأنت لا تزال إنسانا؟ ومتى يتحول النجاح إلى عبء؟ هذه الأسئلة لا تبحث عن إجابات جاهزة، بل تترك أثرها في المساحة بين المشاهد.

إخراج مروان حامد يترجم هذا النبض الداخلي إلى صورة. الكاميرا تعرف متى تقترب ومتى تبتعد، وكأنها تدرك أن المسافة أحيانًا أصدق من الاقتحام، الإيقاع لا يلهث خلف الذروة، بل يسمح للتراكم الهادئ أن يصنع أثره، الصورة هنا ليست استعراضًا، بل جسدًا للحالة النفسية.

واحدة من أبهى لحظات الفيلم هي استخدام الأبيض والأسود، لا بوصفه علامة زمنية، بل كلغة شعورية، في مراحل الحزن، الوحدة، والانعزال، تتحول درجات الرمادي إلى مرآة داخلية، الظلال تثقل، البياض يفضح الفراغ، والصمت يصبح مرئيًا، هنا لا نشاهد الماضي، بل نشعر به، تلوين المشاعر، لا تلوين الزمن، كان مغامرة جمالية نادرة، جعلت الصورة تفكر، لا تكتفي بأن تحكي.

منى زكي تقدم أداءً يتجنب التقليد ويغوص في الداخل، لا تبحث عن الشبه، بل عن الجوهر، في الصمت قبل الغناء، في نظرة العين، في الجسد المتعب قبل أن يستقيم، نرى المرأة التي تعلمت أن القوة ليست اختيارًا، بل شرطًا للبقاء، الأداء يترك أثره دون ضجيج.

الممثلون من حولها يشكلون نسيجًا إنسانيًا متماسكًا، لا يزاحم البطولة ولا يذوب فيها، كل حضور محسوب، كل أداء يخدم الحالة العامة، ويمنح العالم المحيط بأم كلثوم كثافته وصدقه.

المونتاج هو الروح الخفية للفيلم، القطع لا يفرض إيقاعًا، بل يحترم الزمن الداخلي للمشهد، الذاكرة هنا ليست خطًا مستقيمًا، بل طبقات تتداخل وتتنفس.

الموسيقى ليست خلفية، بل أداة سرد، الأغاني تعمل كوثائق شعورية، تحدد الزمن، وتكشف الحالة النفسية، وتربط الخاص بالعام. الصوت لا يشرح، بل يشعر، لا يعلّق، بل يعيش داخل المشهد.

في جوهره، «الست» فيلم عن الإنسانة قبل الأسطورة، وعن الوحدة التي ترافق القمم، وعن القوة التي تُبنى من الحاجة، لا يهدم أم كلثوم، ولا يقدسها، بل يعيدها إلى مساحتها الإنسانية.

في النهاية، «الست» ليس فيلمًا يُشاهد، بل يُصغى إليه، دعوة للبطء، للتأمل، لترك الإحساس يأخذ وقته، أغنية قديمة نعرفها، نسمعها هذه المرة ونحن نفهمها، لا نكتفي بترديدها، صوت يفضح الإنسانة خلف الأسطورة، ويجعلنا نحبها أكثر، لأنها تشبهنا، من لحم ودم، لا مجرد صدى في التاريخ.

تابع مواقعنا