البوصلة المفقودة.. التجارة بين الصناعة والاستثمار
على مدار عقود طويلة، ارتبطت التجارة في الدولة المصرية ارتباطًا عضويًا بملف الصناعة، ولم تكن هذه العلاقة مجرد قرار إداري، بل انعكاسًا لرؤية اقتصادية ترى في أدوات التجارة من رسوم جمركية، واتفاقيات، وحوافز تصديرية، أذرعًا مباشرة لخدمة التصنيع المحلي.
فعندما كانت وزارة واحدة تُدير الصناعة والتجارة معًا، كان التكامل أوضح، لاسيما وأن نفس الجهة التي تخطط لتعميق التصنيع، هي ذاتها التي تملك في الوقت نفسه أدوات السوق اللازمة لحماية الإنتاج وتشجيع تصديره، لتتجسد منظومة متكاملة تخدّم على المستهدفات.
لكن في السنوات الأخيرة، جرى فصل التجارة عن الصناعة، لتنتقل إلى وزارة الاستثمار في صيغة جديدة حملت اسم “وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية”، وفي حين أن هذه الخطوة أحدثت تحولًا مؤسسيًا جوهريًا، إلا أن الأمر لم يكن بلا ثمن.
فبينما رُوِّج للفكرة باعتبارها مدخلًا لتعزيز جذب الاستثمارات، كشفت التجربة عن تفكك في المنظومة وتراجع في قدرة الدولة على صياغة سياسة تجارية متسقة مع أولويات الصناعة، ليبرز هنا سؤال جوهري: هل تخدم تبعية التجارة لوزارة الاستثمار بالفعل أهداف التنمية، أم أن الوقت قد حان لإعادتها إلى مكانها الطبيعي بجوار الصناعة؟
الاستثمار.. تراجع في ركائزه الأساسية
النظر بتمعّن في أداء وزارة الاستثمار بعد استلامها ملف التجارة يكشف عن إشكاليات هيكلية، ليس فقط في ما يتعلق بالتجارة، بل أيضًا في جوهر وظائفها الاستثمارية نفسها حيث طغى ملف التجارة على ركائز الاستثمار الأخرى.
1. غياب العرض الاستثماري المتكامل
إذ لم تنجح الوزارة في بلورة عرض استثماري واضح يقدّم للمستثمرين رؤية متكاملة لفرص الاستثمار في مصر، وبدلًا من خريطة محددة بمشروعات جاهزة، ظل المشهد متسمًا بالتجزؤ وغياب الأولويات.
2. ضعف أداء الهيئة العامة للاستثمار (GAFI)
كما أن الهيئة العامة للاستثمار (GAFI)، بوصفها الذراع التنفيذي الرئيسي للوزارة، قد عانت من استمرار البيروقراطية والبطء، رغم وعود “الشباك الواحد”، واحتاجت إلى تدخلات متكررة لتصحيح المسار، بما في ذلك تشكيل المجلس الأعلى للاستثمار.
وهو ما يعكس أن GAFI لم تتحول بعد إلى منصة فعالة لتسهيل الأعمال، بل بقيت في نظر مجتمع المستثمرين جهازًا إداريًا مثقلًا بالإجراءات، غير قادر على مواكبة المنافسة الإقليمية في جذب الاستثمارات.
3. غموض دور الصندوق السيادي
أيضا الصندوق السيادي، الذي أنشئ ليكون أداة مبتكرة لإدارة الأصول وتعظيم قيمتها، لم ينجح بعد في تقديم نموذج مقنع، فبدلًا من إطلاق مشروعات استراتيجية كبرى أو إعادة هيكلة أصول الدولة بكفاءة، انشغل الصندوق غالبًا في عمليات نقل ملكيات بين جهات حكومية.
لتبقى رسالته غامضة: هل هو أداة لتسييل الأصول، أم منصة لتعظيم قيمتها عبر شراكات طويلة الأجل؟، وهذا الالتباس قلّل من قدرته على لعب دور فعال في تحسين بيئة الاستثمار، وأضعف الثقة في كونه ذراعًا اقتصاديًا استراتيجيًا.
تضارب في الأهداف
بدت النتيجة الآن بارزة في أن إسناد ملف التجارة لوزارة الاستثمار بدلًا من الصناعة لم يحقق التكامل المأمول.
مثلا.. وزارة الاستثمار تتحدث اليوم عن الصادرات، رغم أنها لا تملك الأدوات التنفيذية أو الخبرة القطاعية اللازمة لإدارتها، وفي المقابل، وزارة الصناعة تجد نفسها بلا مفاتيح السياسة التجارية، رغم أن الصناعة هي المستفيد الأول من الرسوم الجمركية، واتفاقيات التجارة، وبرامج دعم الصادرات.
والنتيجة هي حالة من الازدواجية المؤسسية: من المسؤول عن رفع تنافسية الصادرات؟ من المعني بحماية الصناعات الناشئة عند التفاوض التجاري؟ من يحدد أولويات الأسواق الخارجية وفق قدرات الإنتاج المحلي؟ وهذا المشهد المتسم بغياب الوضوح يؤدي عمليًا إلى تضاربات في المستهدفات تظهر جليا في التباين بين مستهدفات التصدير الطموحة ومدى قدرة المكون الصناعي على تحقيقها. يأتي كل هذا في وقت يحتاج الاقتصاد المصري إلى سرعة وحسم.
الأهمية المتزايدة للصادرات الصناعية
تأتي هذه الإشكالية المؤسسية في وقت حساس، فالصادرات الصناعية المصرية قد تجاوزت بالفعل 50٪ من إجمالي الصادرات، بقيمة قاربت 32.5 مليار دولار في العام المالي 2023/2024، مقارنة بنحو 18.7 مليار قبل عشر سنوات فقط.
وهذه القفزة تؤكد أن الصناعة أصبحت المحرك الرئيسي للتصدير، وأن مستقبل تحقيق مستهدفات مثل “100 مليار أو 145 مليار دولار صادرات كما تعلن الحكومة” يعتمد بالأساس على تعميق التصنيع وزيادة القيمة المضافة.
وفي هذا المشهد، يصبح من غير المنطقي أن تُدار أدوات التجارة التي هي في جوهرها أدوات دعم للصناعة، بعيدًا عن وزارة الصناعة، لأنه إذا كان أكثر من نصف الصادرات صناعيًا ومرشحا للزيادة، فمن الطبيعي أن تكون السياسة التجارية أداة في يد الصناعة لا منفصلة عنها.
دروس من التجارب الدولية
وبالنظر إلى تجارب الدول الصاعدة يعزز هذه الرؤية، إذ جمعت كوريا الجنوبية الصناعة والتجارة والطاقة في وزارة واحدة، وخصّصت وكالة مستقلة (KOTRA) للترويج للاستثمار، وهو ما سهّل مواءمة السياسات التجارية مع خطط تطوير الصناعات الوطنية.
فيتنام كذلك أبقت الصناعة والتجارة في وزارة واحدة، وأسندت الاستثمار لوزارة التخطيط وهيئات متخصصة، لينتج ذلك طفرة في الصادرات الصناعية وتدفق متزايد للاستثمار الأجنبي.
دولة المغرب في منطقتنا اتبعت النموذج نفسه تقريبًا، من خلال وزارة موحدة للصناعة والتجارة، بينما الترويج للاستثمار يُدار عبر وكالة مستقلة، وهو ما منحها مرونة في اجتذاب استثمارات نوعية، بالتوازي مع تعزيز صناعات مثل السيارات والكيماويات.
كذلك تركيا، إذ استفادت طويلًا من وزارة موحدة للصناعة والتجارة، قبل أن تفصل الملفات لاحقًا مع الحفاظ على تنسيق قوي بينهما، وهو ما يبرهن أن التكامل المؤسسي كان عاملًا مهمًا في انطلاقتها التصديرية.
القاسم المشترك هنا بين هذه التجارب، أن التجارة بقيت جزءًا من الصناعة، بينما الاستثمار عومل كذراع ترويجي مستقل، وهو بالضبط ما تحتاجه مصر، على الأقل خلال هذه المرحلة حرصا على التكامل واتساق المسئوليات.
الخلاصة: نحو إعادة ضبط البوصلة
ملخص الأمر، أن الوضع الراهن يضع الدولة أمام مفترق طرق، فاستمرار الفصل بين الصناعة والتجارة سيعني بقاء السياسات مجزأة وغير متناسقة، بينما الاقتصاد في أمسّ الحاجة إلى تكامل واضح.
وإعادة التجارة إلى الصناعة لا يجب النظر إليها كمجرد خطوة بيروقراطية، بل فيما تحمله من شرط أساسي لصياغة سياسة صناعية–تجارية متكاملة تستطيع أن تدعم الصادرات الصناعية، وتحمي المنتج المحلي، وتفتح أسواقًا جديدة.
أما وزارة الاستثمار، فينبغي أن تعود إلى تركيزها الطبيعي ذراعا استثماريا محترفا يعمل على جذب التمويل الخارجي ودعم الأصول، من خلال تقديم عرض استثماري متكامل، وإصلاح وتفعيل دور هيئة الاستثمار GAFI، وكذا تحديد استراتيجية واضحة للصندوق السيادي كأداة لتعظيم قيمة الأصول.
إنها لحظة لإعادة ضبط البوصلة، فالمطلوب ليس مجرد إعادة توزيع للملفات، بل استعادة منطق اقتصادي بسيط: التجارة أداة للصناعة، والصناعة قاطرة للتنمية، والجمع بينهما يمسك بأدوات الإنتاج والسوق، أما الاستثمار، فدوره أن يهيئ المناخ ويدعم الأصول، لا أن يتوه في ملفات لا يملك أدواتها.


